عباد الله، ونحن نسير في دروب الحياة، ونتقلب على هذه الأرض، كم نحن بحاجة إلى وقفة روحانيةٍ نجدِّدُ فيها الإيمان في القلوب، ونزيل عنها غبار الغفلة والذنوب!
تعالَوا بنا اليوم نؤمنْ ساعة، تعالوا بنا اليوم نجلس مع أنفسنا جلسة تزكية ومصارحة، نقلب فيها بعض الصفحات، ونستلهم شيئاً من العظات، لعل الله تعالى أن يجمعنا في غرفات الجنات.
أتحدث إليكم اليوم عن حقيقة عظيمة من حقائق الإيمان، مَن أنكرها كفر، وأصلاه الله سقر، حقيقة عظيمة أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثرة ذكرها، ومع هذا فالكثير منا يشمئزون عند ذكرها ولا يحبون الحديث عنها، إنها حقيقة الموت،) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (-آل عمران: 185.
إنها الحقيقة الكبرى، كل حيٍّ سيفنَى، وكُلُّ جديدٍ سيبلى، وما هي إلا لحظةٌ واحدة، في مثلِ غمضةِ عين، أو لمحةِ بصر، تخرج فيها الروح إلى بارئها، فإذا بالعبد في عداد الأموات.
ذهب العمر وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات، بينما أنت على غيك حتى قيل: مات.
عباد الله: ونحن في غفلة الحياة، كثيرًا ما نفاجأ باتصال أو رسالة أو غير ذلك أن فلانًا مات، وقد كان في كامل صحته وعافيته، وذلك مصداق حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مِن اقتراب الساعة أن يرى الهلالُ قُبُلاً فيقال لليلتين، وأن تُتَّخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة” رواه الطبراني. فعجبًا لنا! كيف نتجرأ على الله وأرواحنا بيده؟ وكيف نستغفل رقابته والموت بأمره؟
وقد روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا مَن لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت؟! قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعدَّ بعد؟! قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!
إلى الله نشكو قسوةً قد عمَّتْ، وغفلةً قد طمَّتْ، وأياماً قد طُوِيَتْ، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، كم من قريب دفناه، وكم من حبيب ودعناه، ثم نفضنا التراب من أيدينا وعدنا إلى دنيانا، لنغرق في ملذاتها.
بل ربما ترى بعض المشيعين يضحكون ويلهون، أو يكونون قد حضروا رياء وسمعة؛ بسبب الغفلة وقسوة القلوب.
عباد الله: ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته: ليلةٌ في بيته، مع أهله وأطفاله، منعما سعيدا، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه.
والليلة التي تليها، بينما الإنسان يجر ثياب صحته منتفعا بنعمة العافية، فرحا بقوته وشبابه، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرج، فبدأ يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالا جمعها، ودورا بناها، ويتألم لدنيا يفارقها، وذريةٍ ضعاف يخشى عليهم الضياع من بعده، وقد استفحل الداء، وفشِل الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب، (وجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) -ق: 19
ونزلت به السكرات، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون إليه وهم عن إنقاذه عاجزون، (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ) [الواقعة:83].
ولا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النزع، حتى إذا جاء الأجل، ونزل القضاء، فاضت روحه إلى السماء، فأصبح جثة هامدة بين أهله.
هناك، ينقسم الناس عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، ينقسمون إلى فريقين: أما الفريق الأول فحالهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِلْجَنَّةِ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]، ألا تخافوا مما أمامكم من أهوال الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفكم في الدنيا من الأهل والولد والمال، نحن أولياؤكم في الآخرة، نؤنسكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور.
أما الفريق الثاني من الكفار والفجار، فحالهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93].
أيها المسلمون: أيها المسلمات: وصية محمد -صلى الله عليه وسلم-: “أكْثِروا من ذكر هادم اللَّذَّات، فما ذكره أحد في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعَه، ولا سَعَةٍ إلا ضيَّقَها“. كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة.
وقد قيل: مَن أكثر ذكر الموت أُكْرِمَ بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة.
واعلموا أن تذكّر الموت لا يعني كثرةَ الحزن وطول النحيب مع الإقامة على التفريط، إن تذكرنا للموت يجب أن يقترن بخوفنا من سوء الخاتمة.
والأعمال بالخواتيم، كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه، يقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: “فوالله الذي لا إله غيره! إن أحدكم لَيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها”. فيا ليت شعري! كيف تكون خاتمتنا؟ وبم يختم الله أعمارنا وأعمالنا؟
لما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة بكى، قيل له: ما يُبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.
أين هذه الخاتمة مما وقع لعدد من الشباب، كانوا يستقلون سيارتهم، والموسيقى تصدح بينهم بصوت مرتفع، وهم غافلون، وأبعد ما يفكرون فيه أن يفارقوا هذه الدنيا؛ وفجأة، وقع الحادث، وانقلبت السيارة عدة مرات، ثم حُمل المصابون على سيارة الإسعاف.
وكان أحدهم مصابًا بإصابات بليغة، ويتنفس بصعوبة، فقال له رجل الأمن: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فرَدَّ عليه: هو في سقر، هو في سقر، ثم أغمض عينيه وأرخى رأسه ومات، فسأل رجل الأمن صاحبيه: أكان يصلي؟ قالوا: لا والله، ما كنا نصلي جميعًا.
فيا من قطَعْتَ صلتك بالمساجد، ماذا تقول إذا بلغت الروح الحلقوم؟ ويا مَن أنشأت أولادك على الفساد، وجلبت لهم ما يسيء إلى القيم والاعتقاد، ويا مَن أدمنت الخمور والمخدرات، ووقعت في الزنا وهتك الحرمات، ويا مَن ظلَمْتَ العباد وسعيت بالفساد، هل ستوفق للنطق بالشهادتين عند الموت أم سيُحال بينك وبينها كما فعل بغيرك؟! (وَحيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـاعِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ) [سبأ :54].
الله أكبر! غاية أمنية الميت المقصِّر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته، ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة، فأين نحن من هذا المقام؟
القبر صندوق العمل، وكل ما وضعت في الصندوق سيكون معك بعد موتك.
زر قبَرك في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، ثم قل: هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي، هل وضعتُ فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وحسرة؟
إذا زرت المقبرة فقف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة؟ ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا، لتركع ركعة، لتسبّح تسبيحة، لتذكر الله تعالى ولو مرة؟! ها أنت على ظهر الأرض حيًّا معافى فاعمل صالحا قبل أن تعضَّ على أصابع الندم وتصبح في عداد الموتى.
إذا هممتَ بمعصية، تذكّر أماني الموتى، تذكّر أنهم يتمنّون لو عاشوا ليطيعوا الله، فكيف تعصي الله؟ إذا فترت عن الطاعة، تذكّر أماني الموتى، واجتهد في الطاعة، وبادر إلى التوبة قبل أن يأتيك الموت بغتة، فتقول: يا ليتني قدمت لحياتي!
واعلم أن ملايين الموتى يتمنون مثل الدقيقة التي تمر من حياتك ليستثمروها في طاعة الله، وذِكره، والتوبة إليه، فلا تضيِّع دقائق عمرك، لئلا تتحسر في آخرتك، (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58].
سامي بن خالد الحمود
إنها الحقيقة الكبرى، كُلُّ حَيٍّ سيفنَى، وكُلُّ جديدٍ سيبلى، وما هي إلا لحظةٌ واحدة، في مثلِ غمضةِ عين، أو لمحةِ بصر، تخرج فيها الروح إلى بارئها، فإذا بالعبد في عداد الأموات